جنيف: أسعد عرابي (جريدة الحياة 8 مايو 2000م)

يتفق فنانوا الحركة التشيكلية المحلية على أهمية دور الرائد عبدالله الشيخ وموقعه الأصيل، وترسخ هذا الإعتراف مع تسارع تطورات لوحته، فهو لم يستكن أبدا للنتائج التي بلغها، ولم يقع مرة في فتنة طواعيته التقنية، وهي خصلة يتفوق فيها على أترابه من الفنانين، خصوصاً الذين تعثروا في النمطية الأسلوبية. ولعل هذه الميزة حصنته منذ حبواته الأولى من الاستشراق الفلكوري واستعراضات الخطاب التراثي السهل، وانتظمت انعطافاته من جهة أخرى ضمن سياق متوحد الشخصية، محافظاً بأمانة توليفية على ما تلقاه في مراحله الدراسية في أكاديمية بغداد. وخلفت هذه الفترة في لوحته عقيدة التجريد الجداري النحتي كما سنرى، ولكن انتسابه اليوم إلى خصائص المحترف السعودي يصل حد الشراكة في تأسيس واحد من تياراته الأساسية. تعتمد حيوية لوحته على قوة “الصراع الثنوي” المحتدم بين المواضيع والأشكال، نلاحظ مثلا أن الملصقات الاصطناعية أو الآلية (مقاطع الأنابيب الأسطوانية وغيرها) تقابل الملصقات الطبيعية المنتزعة من هيئة الحجر والرمل والصخر، يجمع إذن ما لا يقبل الجمع من تصميمات الحث والقلع والتلثيم والتخديش والتصديع والتهشير والجراحة بأدوات حادة تدميرية وبنائية في الوقت نفسه غائرة ونافرة، تبدو صدفوية نزقة على رغم أنها مصوغة بتأن ومرصعة بتأمل بطئ. وكان غلب على تكويناته في البداية الطابع المشهدي “البانورام” من ناحية التوزيع والإضاءة، ثم اقتربت عدسته تدريجياً فاصبح يقتصر على شريحة مجهرية مكبرة (منماليست). أما تكويناته الأخيرة فتعتمد على التوازن النسبي بين كفتي الفراغ، وهذا ما يفسر تقسيم السطح إلى لوحتين (أو التثليم بخط هندسي منصف).

ترتصف الشظايا وكأنها تمثل مقطعا من الطبقات الجيولوجية المتراكمة بفعل الزمن، كاشفا مفاتن الخامات والتضاريس المتنوعة. يسبر بواطن التربة في اللوحة بحثاً عن اللقى المعمرة والتبصيمات والإشارات المحفوظة في حضن الزمن منذ الأبدية. وتكفل مادة الاكريليك بصحفها الأسمنتي المقاوم تمفصل العناصر مهما كانت محجمة، وتضمن دباغتها مثلما تدبغ الحنّة أديم الجلد. وهذا ما يفسر لماذا تبدو درجاته اللونية كابية، ولكنها منزلقة من التعيين الزماني في تناوب الليل والنهار وتعاقب الفصول. فاللحظة في حالتنا هذه أبدية، تشهد الصيرورة والدوؤبة في الأرض وفي اللوحة وحين يتأنس الجماد والاوكسيد والفضلات الاصطناعية.

يعتمد فناننا إذن على استثمار المادة الأثرية الجدرانية الخاضعة لعوامل النحت، وعلى ما تقترحه تضاريسها وتفاعلاتها من تخييل، وهي النزعة التي رفعت الحواجز بين فني الرسم والنحت أي بين السطح التقليدي ذي البعدين والسطح المنحوت ذي الأبعاد الثلاثة. تضع تجربة الشيخ هذه الملصقات في تماسك يعادل وحدة الطبيعة، حتى لتبدو وكأنها ممكنة الحدوث في الواقع، تماما كما نحت الأنباط هذا الوهم في جسد الحجر والرمل. تجتمع عناصره المتنازعة في بوتقة التجربة الوجدانية – الوجودية فاللوحة لا تمثل في النتيجة إلا ذاكرتها العاطفية والانفعالية التي لا تقبل التكرار أو التماثل.