عبدالله الشيخ الرسام المحتج بين هجاء الواقع ورثائه

الموسيقى، الإنسان، العمارة ومن حولها شبح الحرب. كيف يتمكن الرسام من ضبط إيقاع توتّره الروحي لينال في خضم ذلك النزاع حصته من جمال مهدد بالزوال؟

سؤال صعب يمكن لرسام وصل بفنه إلى حافات التجريد مثل عبدالله الشيخ أن يجيب عليه. سعة خبرته بالمواد وتمرده على النظريات المحلية المتاحة ومهارته في الاستسلام لخياله وكفاءة يده التي شغفت بالتقنيات الحديثة، كلها عناصر أهّلته لأن يقف أمام العصف بقوة دفاعه عن الجمال.

المتمرد بعصا المايسترو

أخذ الشيخ من المحترف الفني العراقي الشيء الكثير، غير أنه تحرر منه حين أنصت إلى الهمس الذي ينزلق على أعشاب الصحراء حاملا إلى الأفق نداءات خفية وحين تمكن من استيعاب تجارب الفنانين العالميين الذين تأثر بهم وألهمته رسومهم وفي مقدمتهم الأميركيان روبرت راوشنبرغ وجاسبر جونز.

الشيخ هو رسام صاحب رسالة إنسانية

لم يستسلم لنداء البيئة التي هو ابنها بقدر ما حاول أن يطوعها لنداء حلمه الداخلي. لم يسع إلى التشبّه بها بالرغم من إعجابه بمفرداتها بل سعى إلى أن يظهرها كما لو أنها جزء من صنيعه الفني. الحيلة ذاتها سيمارسها مع الإنسان. الظل الذي يظهر شبحيا في عدد من أعماله كما لو أنه على أهبة الاستعداد للمغادرة. بالنسبة للشيخ فإن أثر الإنسان هو بمثابة خلاصة وجود.

تحيط فكرة الأثر المكان والإنسان بما تنطوي عليه من خيال تصويري، هو في حقيقته أشبه باستعادة حلمية لأحداث يمتزج من خلالها الواقعي بالوهمي ليصنعا تاريخا مجاورا. غير أن الموسيقى هي شيء آخر. كان تأثير الموسيقى حاسما في حياته.

الشيخ هو من أكثر الفنانين العرب الذين تعلموا كيف يمكن أن تنتج المعادلات الرياضية جمالا، لا يخضع لما هو متداول من وصفات جاهزة. كل ضربة إيقاع هي بالنسبة له إيذانا بولادة أثر خالد. وهو ما جعله ينظر إلى الصنيع الفني باعتباره جزءا من ملحمة البقاء.

لديه ما يكفي من الأسباب لكي يمشي في أثر جده السومري جلجامش.

الشيخ هو الرائد الحقيقي للحداثة الفنية في المملكة العربية السعودية، غير أنه لا يعتد كثيرا بذلك اللقب. تلك مسألة لا تدخل في حساباته وهو الذي لا يرغب في أن ينافس أحدا.

كنت سعيدا بلقائه ذات مرة. لكن أين ومتى جرى ذلك اللقاء الذي لا يزال ينفث هواءه في ذاكرتي، فهو ما لا أتذكره. سرّني يومها أنه لا يزال ممسكا بعصا المايسترو وهو يتوقع أن الموسيقى ستنبعث من حولنا في أية لحظة.

متعة الساحر في شغبه

ولد عام 1936 في بلدة الزبير بمدينة البصرة، جنوب العراق. أنهى دراسة الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1959. بعدها درس فن التصميم في بريطانيا وتخرّج عام 1965. تأخر في إقامة معرض شخصي حتى عام 1982 هو المعرض الذي أقامه في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية. يُعتبر معرضه “أشياء من هذا العصر” الذي أقامه عام 2007 خلاصة تحولاته الفنية عبر أكثر من عشر سنوات حيث ضم ذلك المعرض تجاربه بدءا من عام 1995.

يمكن القول إن الشيخ هو رائد التجريب الفني في السعودية. من خلال رسومه يمكن رصد تحولاته الفنية التي كان يعبّر من خلالها عن انتمائه إلى العصر، من غير أن تتمكن منه عقدة الهوية وهو الذي كان حريصا دائما على أن يتماهى مع تأثير المكان بقيمه الجمالية الخاصة.

غير أن الشيخ استطاع أن يحرر تلك القيم من سكونية إيقاعها حين تمكن من تطويعها ومن ثم استدراجها إلى مناطق خيالية تتيح له القيام بنزهاته المريحة التي لا ترتبط بهدف بعينه.

بالنسبة له لم يكن وصف المكان هدفا بل كان يستعمل مفردات ذلك المكان لتكون جزءا من عالمه الجمالي الذي صار ينشئه مشدودا إلى وعد إنساني لا ينضب بالمتعة.

بقدمي جندي ضائع

في بداياته مارست مفردات العمارة المحلية سحرها عليه، فكان يرسم القباب والأهلة والأقواس وسواها من المفردات التي وجد فيها ضالته التجريدية من زاوية هندسية، وهو ما جعله قريبا من إلهام الزخرفة الذي نقله إلى مستوى الإحساس بالإيقاع البصري الذي يهب الموسيقى أشكالا تجسدها كما لو أنها وقائع مرئية.

في مرحلة لاحقة صار الرسام يزاوج بين النظرة الواقعية وطريقة صياغة الواقع باعتباره حدثا غرائبيا. وهو ما جعله قريبا من السريالية من غير أن يكون سرياليا كاملا. أما حين انتقل إلى ما يمكن أن يُسمى بالتجريدية العضوية، فإنه صار قادرا على إعادة صياغة المرئيات لتظهر في رسومه كما لو أنها أشكال مستقلة، التقطها الفنان من العدم.

لم ينج شيء من شغبه الذي يعبر عن شغفه بثلاثيته الخالدة “الموسيقى. الإنسان. العمارة”.

يقول الشيخ “أتصوّر أن كل خطوة أثناء رسم اللوحة هي تجربة جديدة بحد ذاتها، وهذه التجربة قد تتحوّل إلى مشكلة، أو لنقل أحجية أثناء الرسم. فيبدأ الرسّام بالعمل على حل المشكلة أو حلّ الأحجية، وحين يصل إلى وضع الحلّ، فإنه يشعر بلذة كبيرة، هي اللذة التي يجدها كل فنان حين يقتنع بأن عمله الذي يقوم به قد أشرف على الانتهاء، وهذا ينطبق على كل أنواع الفنون والفنانين”.

ذلك وصف بليغ للرسم باعتباره حالة نفسية. الرسام هنا يلعب دور الصانع الذي يبحث من خلال صنيعه عن حل للغز، هو في حقيقته لغز حياته باعتباره رساما. يتضمن ذلك الحل على معنى أن يكون المرء رساما في عالم، يعيش تحولاته على وقع الخوف والذعر والقتل والخراب المبيت.

الحرب كانت واحدة من أشد الصدمات تأثيرا على أسلوب الشيخ في البحث عن حلول لمشكلاته الشخصية في ما يتعلق بوظيفته رساما. غزارته في إنتاج أعمال فنية تدور حول محور الحرب كانت تعبيرا عن رغبته في الاحتجاج على ما بدا له كارثيا من أحوال العالم العربي بعد احتلال الكويت والحرب التي دمّرت العراق في السنة الأولى من تسعينات القرن الماضي. لقد مشى الشيخ يومها على أرض الرسم بقدمي جندي ضائع.

التجريد وهو خلاصه

تغير العالم فتغير الرسم. لجأ الفنان يومها إلى استعمال المزيد من التقنيات التي تشرك العالم الواقعي شاهدا في الإدانة.

أعمال الشيخ الفنية في تلك المرحلة كانت تمزج بين الهجاء والرثاء. هجاء الواقع ورثاء ذاكرته التي انفصل عنها. وهو يطارد ألغازا وأحجيات. غير أن عينه تظل في الوقت نفسه مصوبة في اتجاه الإنسان. تلك الفريسة التي تتجاذبها قوى خفية.

غنائي عذب هو الشيخ، وهو في الوقت نفسه محتج عنيد. رسومه تشبهه. هي أثره الذي يتشبث به منصتا لموسيقى روحه التي تنتقل بخفة بين الرقة والصخب. لم ينسف التجريد طريقه في اتجاه الواقع، كما أن الواقع لم يقف بينه وبين الذهاب إلى حديقة أحلامه التي تظل مفتوحة على التوقعات التي تقترحها مواد، صارت تتدخل في صياغة مصير الرسم.

الشيخ هو رسام صاحب رسالة إنسانية. ما يميّزه عن سواه أنه لا يرى للإنسانية من حل للخروج من مأزقها إلا عن طريق الجمال الخالص. في أشد حالاته واقعية يظل الرسام مسكونا بتجريد، هو التعبير الأمثل عن خلاصه.

رابط المقال: https://goo.gl/wTbMkh